د. أحمد على سليمان يكتب :عمالة الأطفال في النظافة بين مصر واليابان
عندما سئلت في هذا التحقيق الصحفي عن رأيي في عمالة الأطفال في النظافة داخل المدارس؟، تبادر إلى ذهني قاعدة تعلمناها منذ أكثر من عشرين عاما في الكشافة، وهي: (أن نترك المكان أفضل مما كان)، ولكن عبارة “عمالة الأطفال” عبارة لها وقع مؤلم؛ نظرا لقهر الأطفال المتسربين من المدارس وغيرهم في مهن وحرف يهانون في أكثرها ويتعلمون من خلالها سلوكيات لا تتفق وجميل الأخلاق، والصحيح أن نقول مثلا: تنمية قيم النظافة والنظام لدى الطلاب، أو دور الطلاب في نظافة مؤسساتهم التربوية.. وهكذا.
وإذا كان من ممارسات جودة التعليم ترسيخ المسئولية الاجتماعية لدى المتعلم، والتعاون مع المجتمع المحلي، واحترام عناصر البيئة والتعامل معها في إطار الرشد الحضاري، وممارسة السلوكيات الصحية، واحترام شتى المهن والحرف الموجودة في المجتمع، فإنني أرى أن مشاركة المتعلمين بشكل حضاري في نظافة مدارسهم تعد من أنجع الأساليب العملية في تربية التلاميذ على النظافة والنظام، وتجميل المكان وجعله جاذبا لهم ومحببا إليهم، وممارسة السلوكيات الصحية السليمة، شريطة أن يشترك العاملون بالمؤسسة التعليمية في عملية النظافة بصورة حضارية لا تضر بصحة الطلاب ولا تقتصر على التلاميذ فقط ليصبح هذا الأمر سلوك حياة في المدرسة وفي خارجها، أما أن يُساق التلاميذ بعصا غليظة أو ماسورة مياه بلاسيكتية أو ما شابه ذلك أو من خلال ألفاظ نابية أو أصوات عالية يطلقها أحد المعلمين أو مدرس التربية الرياضية مثلا أو أحد العمال لدفع التلاميذ لنظافة المدرسة، فهذا السلوك مرفوض جملة وتفصيلا، ولا يحدث إلا في البلدان التي تخلفت عن التاريخ أو تخلف عنها التاريخ، وفي هذا المقام نستدعي تجربة اليابان التي علَّمت أبناءها النظافة والنظام وسمو الأخلاق والسلوك الرشيد بمعناه الشامل، فالأطفال اليابانيون ينظفون مدارسهم بأريحية وفرح وسرور كل يوم لمدة ربع ساعة مع المدرسين؛ مما أدى إلى ظهور جيل ياباني متواضع ومنظم وحريص على النظافة، حتى أصبحت النظافة في اليابان “عنوان الأخلاق”، واليابانيون يحترمون جدا عامل النظافة ويسمونه “مهندسا صحيا” ويتقاضى راتبا كبيرا جدا، ولا يسمونه “زبالا” كما هو الحال عندنا.. واليابانيون يركزون جدا من خلال مؤسساتهم التربوية والثقافية والإعلامية على ترسيخ المسئولية الاجتماعية والأخلاق ، فالمعلم الياباني يقول للطالب: “نجاحك نجاح اليابان”، وعلى الرغم من أنهم من أغنى شعوب العالم فليس لديهم خدم، ولكنهم يقومون بخدمة أنفسهم بأنفسهم وتدريب الأطفال على ذلك، والإنسان الياباني لا يعرف التبذير بتاتا، فإذا ذهب مثلا إلى مطعم فإنه لا يأخذ من الطعام إلا على قدر حاجته فقط، ومدير المدرسة في اليابان يتناول من الطعام الذي أُعِدَّ للطلاب قبل تناولهم له بنصف ساعة؛ حتى يتأكد عمليا من سلامة الطعام وخلوه من أي ضرر قد يصيب الطلاب؛ لأنّهم يعتبرونهم مستقبل اليابان الذي يجب حمايته..
واليابان قد دمرت عن بكرة أبيها (نفسيًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا)، بعد إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي.. ومع ذلك أبهرت العالم -ومازالت- بإرادتها وإدراتها ورغبتها الملحة في ترك بصامتها في جنبات الدنيا…
فهل يمكن أن يحدث هذا في مصر؟!
نعم يمكن بكل تأكيد.. ولكنها الإرادة والإدارة وترسيخ المسئولية الاجتماعية من خلال تكاتف شتى مؤسسات الدولة (التربوية والثقافية والدينية والإعلامية) لتحقيق ما سبق، والمصريون الذين أضاءوا مشاعل الحضارة وعلموا الدنيا قديما قادرون على ذلك بإذن الله.